كيف تمضى سفينة الحياة بلا ثقوب

كيف تمضى سفينة الحياة بلا ثقوب

يخطئ من يظن أنه يمضى فى موكب الحياة بمفرده ، وأن الحياة قد أصبحت حكراً عليه هو فقط .

فالمجتمع الإنساني إنما نشأ من اجتماع البشر مع بعضهم البعض ، والاجتماع له أصول وقواعد حتى لا تفسد الحياة وتصير فوضى.

ونحن اليوم على موعد مع أحد القواعد الهامة والضرورية لضبط المجتمع الإنسانى ولضبط مفهوم الحرية فيه ، حتى لا تصبح الحرية مسوغاً لارتكاب الموبقات كافة.. وإتيان الفواحش بجميع صنوفها وألوانها.. والمسوغ فى النهاية هو " الحرية " .

والحرية متى ضبطت بذلك الضابط الذى خطه لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صارت حرية منتجة وفعالة وتسهم فى دفع المجتمع إلى الإمام .

فقد روي الإمام البخاري في صحيحه عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، عن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال :

"مثل القائم علي حدود الله والواقع فيها.. كمثل قوم استهموا علي سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها .. فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا علي من فوقهم فأذوهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا .. هلكوا جميعا ً وإن أخذوا علي أيديهم نجوا ونجوا جميعاً"

مثل رائع.. بل هو في منتهي الجمال والروعة.. يضربه رسول الله (صلي الله عليه وسلم) لمن أخطأوا الطريق وحادوا عن الجادة وتنكبوا سبيل الهدي.. ففهموا الحرية فهما خاطئا ً.. ولم يعلموا أن الحرية تساوي مسؤولية.. وأن الحرية منوطة بالرجال.. لا لمن ساروا في هذه الحياة حسب أهوائهم وطوعا لما تمليه عليه شهواتهم.

ومثل آخر.. لأولئك الذين رأوا المنكر فسكتوا عنه وأغمضوا أعينهم عما يدور حولهم من آثام وموبقات.. وكأن الأمر لا يعنيهم وظنوا في أنفسهم الصلاح والفلاح وهم غير ذلك.. ليصدق فيهم قول ابن القيم:

" وأي خير وأي دين فيمن يري محارم تنتهك.. ودينه يضيع وسنة نبيه يرغب عنها وهو بارد القلب .. ساكت اللسان شيطان أخرس.. فهؤلاء مع سقوطهم من عين الله قد بلوا بأعظم بليه ألا وهي موت القلوب".

والقائم علي حدود الله:

هو ذلك الرجل المتمسك بالدين ، القائم بواجب الدعوة.. ويا حبذا لو كان ذلك الرجل كل زوج في بيته.. وكل رئيس في عمله.. وكل مرب في مجال تربيته.. وكل راع في رعيته.

والواقع فيها: المراد به المستهتر بأمور الدين.. المرتكب للمنكرات والمعاصي والآثام.. الذي لا يبالي بما فعل من فحش وموبقات.

إنه مثل من روائع الحكم النبوية .. حيث يصور فيه رسول الله (صلي الله عليه وسلم) المجتمع البشري بما فيه من أخيار وأشرار.. ومتقين وفجار.. بركبان سفينة في بحر خضم متلاطم الأمواج.. تسير وسط البحر تشق طريقها بين الأمواج والأعاصير تهتز مرة ذات اليمين ومرة ذات الشمال.. وقد تستقيم علي الأفق أحيانا أو ترسب إلي الأعماق أحيانا.

وقد انقسم الركاب إلي قسمين :

قسم سكن أعلي السفينة.. يتمتع بجمال الكون وروعة الطبيعة ونضارة الحياة بجانب كل أسباب الرفاهية والراحة من ماء عذب وسرر وأرائك وخدم.

وقسم سكن أسفل السفينة.. وقد حرموا بما ينعم به إخوانهم في الطبقة العليا ، فهم لا يرون مناظر الطبيعة ولا يتمتعون بجمالها الخلاب حتى الماء فقد كانوا يجلبونه من الأعلى فثقل عليهم هذا الأمر.. فخطرت ببالهم خاطره وهي أن يثقبوا أسفل السفينة ويستخرجوا الماء من البحر.. وذلك حتى لا يتعبوا أنفسهم ولا يزعجوا من فوقهم.

وبالفعل بدأوا بما عزموا عليه ، وقرروا الخرق ، وأتوا بالمعاول والفؤوس ، وراحوا يضربون بها السفينة لاستخراج الماء.. وعند ذلك سمعهم من فوقهم فهرعوا إليهم مسرعين ووقفوا في وجههم يريدون منعهم.. فإذ بهم يستاءون من تدخلهم ويقولون لهم " نحن أحرار" نفعل ما نشاء في مكاننا.. وهل تمنعون الناس من استعمال حرياتهم ؟

فإن تركوهم علي إرادتهم وصنيعهم هلك ركاب السفينة جميعهم وإن أخذوا علي أيديهم نجوا جميعاً .

وهكذا نحن حالنا في هذه الحياة فوق سطح الأرض " كركاب السفينة تماماً" فينا البر والفاجر.. وفينا الصالح والطالح.. وتحملنا السفينة جميعاً كل لوجهته ، ولكنها محكومة بالموج المضطرب والرياح من جانب ، وما يريده لها الربان من جانب ، وهي تهتز مرة ذات اليمين ومرة ذات الشمال ، وقد تستقيم علي الأفق أحيانا أو ترسب إلي القاع أحيانا .

إن كثيرا من الناس لينسي هذه الحقيقة ، ينسي سفينة المجتمع أو سفينة الحياة ينسي هذا الاضطراب وهذا الموج.. فيخيل إليه أنه ثابت علي البر لا يضطرب ولا يزول ، ومن أجل ذلك يفجر ويطغي .

ولو تذكر من يفجر ومن ينحرف أنه ليس راكزاً علي البر.. وإنما هو منطلق علي العباب .. وأن كل حركة يأتيها تتأثر بها السفينة فتهتز.

لو تذكر ذلك لما ترك نفسه لشهواته وانحرافاته ، ولعمل ألف حساب لكل خطوة يخطوها وكل حركة يسعاها حرصاً علي نجاته ونجاة الآخرين .

ولكنها الغفلة السادرة التي تخيم علي البشرية.. إلا من آمن واتقي.

والرسول (صلي الله عليه وسلم) يدرك هذه الغفلة التي ترين علي قلوب الناس ،فيحذرهم منها ويصورها لهم في صور شتي من أعجبها وأبلغها هذه الصورة التي يرسمها هذا الحديث

حين قال الإقطاعيون نملك الأرض وكل من عليها عبيد

حين قال الرأسماليون نملك المصانع والعمال فيها عبيد

حين قال الأباطرة نملك الملك والرعايا عبيد

وحين قال غيرهم من العلمانيين والظالمين مثل قولهم كانت النتيجة واحدة في كل مرة وهي غرق السفينة ومن عليها من سادة وعبيد.

وكذلك في كل حال والنهاية محتومة وهي غرق السفينة المخروقة ومن عليها .. وذلك عندما يقوم شاب مفتون ينجرف في تيارات الشهوات يقول :

أفعل ما بدالي ، ليس لأحد علي سلطان .

يتركه الناس يفسق ويفجر وينشر الفاحشة.. وقد يقول في نفسه وهل يمكن أن أؤثر في المجتمع ؟

ما هي إلا قبلة في الهواء أو ضمة مختلسة في الظلماء.. أو ساعة ممتعة في الخلاء.

هل هذه يمكن أن تؤثر في المجتمع وتهدم الأخلاق ؟

وينسي .. وينسي الساكتون أن هذا هو بداية الخرق ، ثم يأتي غيره ويفعل فعله وتغرق السفينة إن لم يتم الأخذ علي يديه .

وتقوم فتاه مستهترة تتقصع في مشيتها ..تخضع في حديثها.. تعري جسدها.. وتقول:

أنا حرة في أفعالي ليس لأحد علي سلطان

وماذا يضير المجتمع من هذه الأفعال

وتنسي ، وينسي الساكتون أن هذا هو بداية الخرق.. ثم تأتي غيرها وتفعل فعلتها وعندئذ تغرق السفينة إن لم يتم الأخذ علي يديه.. أين دور الأب .. أين دور الأم .. أين دور المدرس .. أين دور المربي .. وأحسبهم هم القائمون علي حدود الله .

ويقوم كاتب يزين الفاحشة ويزخرفها للناس ، يقول :

أنا حر فيما أكتب .. أين حرية الرأي ؟ ليس لأحد علي سلطان .

ويتركه الناس يعيث في الأرض فساداً ينشر سمومه .. وهم مستهترون به وبأمره قد شغلوا عنه في زحمة الحياة .. يهزون أكتافهم يقولون علينا أنفسنا لسنا مكلفين به.

ويستفيد ذلك الكاتب ويزداد شهرة وثراء ، مما يغري غيره من الكتاب فينغمسون في تيار الجريمة .

ولو أخذ الناس علي يد الكاتب الأول لرقع الخرق الأول.. ولكن بسكوتهم ازداد الخرق واتسع علي الراقع ، مما أغرق السفينة .

وكذلك تاجر المخدرات لو تم الأخذ علي يديه من أول وهلة ، لسد الخرق وما اتسع علي الراقع.. وما غرقت السفينة من كثرة الخروق .

وأيضا الطالب الذي يغش في الامتحانات .. وعلي نفس الشاكلة يقوم موظف يرتشي يقول :

أنا حر.. أفعل ما أريد ليس لأحد علي سلطان .

يتركه الناس ، بدافع الحاجة إلي ما في يده من المصالح.. أو بدافع الخوف إن كان من ذوي النفوذ .

ويستفيد المرتشي ثروة سهلة مضمونة الورود مما يغري غيره من الموظفين فيندفعون في تيار الرشوة ينهلون من هذا المنهل الدنس.. حتى تصبح الأمور كلها بالرشوة.

ومن غيرها توصد الأبواب في وجه أصحاب الحقوق ، وعند ذلك والعياذ بالله تقع الهزة ويتزلزل المجتمع كله من القواعد .

سؤال :

فما النجاة إذن ؟

النجاة وضحها رسول الله (صلي الله عليه وسلم) هي أن تأخذ علي يد أخيك بـ " ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ "

" وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ* وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ "

انصر أخاك ظالما أو مظلوما قلت يا رسول انصره مظلوما فكيف انصره ظالما قال "تمنعه عن الشر".

وذلك بالنصيحة النابعة عن حبك له لأنك تريد له الخير ، تريد أن تأخذ بحجزه حتى لا يقع في النار .

لا تكن ممن يقول : هلك الناس ، أيها الحبيب :

أوقد شمعة ولا تلعن الظلام .

كن كمؤمن أل فرعون .. كمؤمن أل يس .. كن كغلام الأخدود.. وانظر إلي الحملة التي أطلقها فضيلة الدكتور محمد سيد أحمد المسير تحت شعاره ( نشر الحياء ) وكن جنديا فيها .

وحاول أن تضع يدك في يد من رفعوا شعار ( لا للمواقع الإباحية ) واجتهد أن تكون كعمرو خالد في مشروعه " القضاء علي الإدمان"

بذلك تنجو

وفي الختام

"واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ"

بآآركـ الله فيكـ